![]()
ظهرت الرواقية في القرن الرابع قبل الميلاد، واستمرت لحوالي خمسمائة عام في التاريخ الإغريقي والروماني. لم تكن الرواقية مذهبًا ما محددًا أو حتى لها تعاليم محددة، بل كانت أسلوب حياة يدعو إلى التناغم مع الطبيعة، والصبر على المشاق، ونبذ المشاعر والاحتكام إلى العقل دائمًا وأبدًا. وقد ظهرت وسط الاضطرابات الفكرية والاجتماعية التي تلت وفاة سقراط، والاضطرابات السياسية التي تلت وفاة الإسكندر الأكبر. ولهذا ارتكزت الرواقية على أساس البحث عن السلام الداخلي، والاحتماء بالعقل، والثقة في ترتيبات الطبيعة أو الآلهة بالرغم من فوضى العالم المحيط.
ومنشأ هذه المدرسة الفلسفية هو الفيلسوف «زينون الرواقي». ولكن لم تصل لنا من أعماله سوى نبذات. ولكننا نعرف أنه قسم الفلسفة إلى ثلاثة أجزاء: الفيزياء، والمنطق، والأخلاق، وذلك لتوحيد النظريات مع الممارسات. وقد رفض زينون الممارسات الدينية المعتمدة على المعابد وإقامة الشعائر، ودعا إلى الوصول إلى الإله عن طريق الإقرار الذاتي والتأمل في قوانين الطبيعة. كما دعا زينون إلى البعد عن كل ما ليس للإنسان دخل به؛ أي لكي يصل الإنسان لحالة السلام الداخلي يجب عليه أن يهتم بعقله وإرادته على التغيير، والبعد عن الأشياء التي لا يستطيع تغييرها كالصحة، والموت، ورؤية الآخرين له. وهذا ليس بالشيء السهل، فالتركيز على النفس يتطلب جهدًا عقليًّا وعمليًّا.
ومن أشهر الفلاسفة الرواقيين الفيلسوف والإمبراطور الروماني «ماركوس أوريليس». نبذ ماركوس أوريليس فن الخطابة الذي درسه في سنوات صغره، واهتم بالفلسفة وبالأخص الفلسفة الرواقية. أصبح ماركوس أوريليس إمبراطور روما في عام 161 ميلاديًّا وحتى مماته في عام 189 ميلاديًّا. وقد عُرِفَ بأنه أحد أحكم وأنبل من حكموا روما بالرغم من المصائب والحروب التي شهدها عصره؛ كانتشار الطاعون، والسيول، والعديد من الحروب هنا وهناك؛ مما جعله يقضي معظم فترة حكمه مرتحلًا حتى تُوفيَّ في أحد معسكراته عند الدانوب. وقبل وفاته قام بكتابة أحد أعظم الكتب التي وصلت إلينا وهو «تأملات» الذي كتبه كتأملات ذاتية عن فلسفته في الحياة.
لم يقصد ماركوس أوريليس أن يؤلف كتابًا، ولكنه كان يكتب لتقويم نفسه ومحاولة ترتيب أفكاره. ولذلك خرج الكتاب في اثني عشر فصل، أو كتاب غير مترابط وغير مسلسل. فلم يأخذ الكتاب هيكلة محددة، ولا يوجد معنى من ترتيب الفصول أو الكتب. ولأن الكتاب يعكس تجاربه الشخصية، فسيجد القارئ حكمة يستطيع أن يتآلف معها. فقد كتب ماركوس عن الموت، والوقت، والسعي وراء الشهرة، وكيفية معاملة جيرانك، والتركيز على الذات ونبذ كل ما هو غير مهم، والكثير من الأشياء التي تهمنا الآن. فبالرغم من قوته وسلطته، تجده رجلًا بسيطًا يرتقي لمرتبة القديسين.
ويتضح من التعليمات المذكورة في الكتاب أن العيش كرواقي ليس بالأمر الهين، فهناك العديد من الممارسات الفكرية التي يجب اتباعها وتغيير رؤية الإنسان للحياة. فيجب على الإنسان أن يتقبل كل ما يصيبه من سهام القدر عن طيب خاطر، وأن ينسجم مع الطبيعة التي أنتجته. فإذا كان العالم يحكمه إله فهو أعلم بما يرسله إلينا من أقدار، وهو عليم بما نستطيع تحمله وتغييره، وإذا لم يكن هناك إله، فيجب أن نعيش وفقًا لما تمليه علينا أنفسنا من فضائل وأخلاق. فنحن نعيش حياتنا كجزء من الطبيعة التي أنتجتنا وعندما نختفي، سنختفي بداخلها. فنحن شظايا صغيرة ومؤقتة في الكون، وسيأخذنا الموت جميعًا في النهاية، ولذلك يجب علينا أن نعيش لهدفٍ ما بدلًا من أن نعيش كاللعب الميكانيكية. وطبقًا لماركوس، يجب ألا ينشغل الإنسان بما هو خارج عن إرادته أو التفكير في الآخرين ورؤيتهم له، بل يستثمر وقته في تعلم ما هو جديد، والتفكير فيما هو مفيد له وللمجتمع.
في مواضع عدة من الكتاب يشير أوريليس إلى أن العالم منظم بطريقة عقلانية ومتماسكة. وبشكل أكثر تحديدًا، يتم التحكم بها وتوجيهها من قبل قوة عليا يشير إليها الرواقيون كاللوجوس «Logos». وهذا المصطلح يشير بالأساس إلى التفكير العقلاني المتصل – سواء كان ينظر إليه على أنه سمة «العقلانية، والقدرة على التفكير والاستدلال» أو كمنتج لتلك السمة «الكلام الواضح العقلاني أو الخطاب المسترسل». ويرى أوريليس أن اللوجوس لها وجود في الأفراد وفي الكون ككل على حدٍّ سواء. ففي الأفراد تتمثل في القدرة على التفكير والاستدلال؛ أي إعمال العقل. وعلى المستوى الكوني فهي المبدأ العقلاني الذي يحكم تنظيم الكون. ويشار إلى هذا المبدأ العقلاني في كتاب «التأملات» تارة «الطبيعة»، وتارة «العناية الإلهية»، وأحيانًا «الإله».
وكرواقي، يرى ماركوس أوريليس أن عقل الإنسان هو ملجأه الأول والأخير، فكل ما هو خارج عن العقل ليس له فائدة. فعقل الإنسان هو مصدر قوته الحقيقية، وهو ما سيجنبه المتاعب من خلال تحكمه في رؤيته للأحداث المحيطة، وتحكمه بالمشاعر والآلام. وللإنسان كامل القوة على عقله من خلال اتباع القدرة على التمييز والعقلانية وعدم اتباع الشهوات والرغبات. وبالتالي فترويض عقل الإنسان هو ما سيجعله سعيدًا. والبحث عن الحقيقة المجردة من المشاعر والانفعالات هو ما يجب أن يشغل العقل، وليس البحث عن الشهرة أو استحسان الآخرين. فكم من إمبراطور، وفيلسوف، وغيرهم من المشاهير أصبحوا تحت التراب، أصابهم الموت كما يصيب العامل المجهول. هل أفادتهم شهرتهم بعد الموت؟
إن الأسئلة التي يحاول كتاب «التأملات» الإجابة عنها هي أسئلة ميتافيزيقية وأخلاقية منها: لماذا نحن هنا؟ كيف نعيش حياتنا؟ كيف يمكننا أن نضمن أن ما نفعله هو الصحيح؟ كيف يمكننا حماية أنفسنا من ضغوط الحياة اليومية؟ كيف ينبغي لنا أن نتعامل مع الألم والمعاناة؟ كيف يمكننا أن نعيش مع العلم أنه في يوم من الأيام لن نكون موجودين؟ ولكنه سيكون من غير المجدي وغير الملائم محاولة تلخيص ردود ماركوس.
فعظمة هذا الكتاب تأتي من قدرته على إمداد كل قارئ بالإجابات التي يبحث عنها. ولكن الإجابات لا تخرج عن هذه المناهج الثلاثة: الإدراك، والعمل، وإرادة التغيير. فعن الإدراك يقول ماركوس: «لك كامل القوة على عقلك، وبالتالي على رؤيتك للأحداث والسيطرة عليها. تذكر ذلك جيدًا وستجد قوتك الخفية». فإدراك قوة العقل والتعمق بداخله هو من أهم ما يدعو إليه الكتاب، وعدم الانشغال بالأمور التي لا نستطيع السيطرة عليها. فيقول ماركوس: «أنت تملك دائمًا خيار ألا يكون لك رأي. ليس هناك أي داعي لإرهاق روحك في التفكير حول الأشياء التي لا يمكن السيطرة عليها. هذه الأمور لا تطلب أن يحكم عليها أحد. فقط دعهم وشأنهم».
ومن النصائح التي ترددت في كتابات أوريليس أكثر من مرة هي «عند الاستماع إلى خطاب ما، يجب عليك الانتباه إلى ما يقال، وفي كل فعل، يجب أن تلاحظ الفعل بدقة. فعند الفعل يجب أن ترى على الفور نهاية الفعل الحتمية ونتائجه، ولكن في الخطاب يجب أن تلاحظ جيدًا ما وراء الكلام». كما أنه يرى أن التغيير هو أصل الطبيعة، وفيه يجد الإنسان راحة من مواجع الحياة، فيقول: «لاحظ دائمًا أن كل شيء هو نتيجة للتغيير، واعتد على التفكير في أنه لا يوجد شيء تحبه الطبيعة أكثر من تغيير الأشكال الموجودة وخلق ما هو جديد». وبما أن ماركوس كتب تأملاته بعد وفاة زوجته فنجده يحلل الموت ويتحدث عن علاقة الموت بالحياة، فيقول: «ليس الموت هو ما يجب أن يخشاه الإنسان، ولكن عليه أن يخشى ألا يبدأ في العيش أبدًا». وفي موضع آخر يقول: «أنت جزء من شيء أكبر. لقد عشت حياتك كجزء، وعندما تختفي، ستختفي بداخل ما أنتجك من الأصل».
إن ما كتبه ماركوس أوريليس هو كنز يجب الرجوع إليه مرارًا وتكرارًا، ومحاولة تطبيق تعليماته بما في ذلك السبب الرئيسي من كتابته؛ أي ممارسة الكتابة اليومية لتطوير قدراتنا على نقد أفعالنا، وتأمل مسار حياتنا. فهو مرجع لكيفية نضوج الإنسان وخوضه الحياة بحكمة وتعقل، أو كما قال الباحث الفرنسي «بيار هادوت» إنه يمكن اعتباره كممارسات روحية لمواجهة ضغوط الحياة اليومية: أي أنه كتاب مساعدة ذاتية بالمعنى الأكثر حرفية.
المصدر: ساسة بوست