![]()
من روائع توفيق الحكيم
الشهيد
من رواية أرني الله
دقت أجراس الكنائس ونواقيس الكاتدرائيات احتفالا بعيد الميلاد وسري رنينها في جسد روما كما يسري الروح العلوي في أبدان الرهبان ... في تللك اللحظة هبط المدينة شخص غريب يمشي نحو الفاتيكان وهو يرهف السمع ألي تراتيل الأناجيل ترتفع في كل مكان : ( العذراء تحبل وتلد ابناً .. وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم ....)
وكانت أصوات الأرغن تحملها إلي أذنيه صادحة بألحان (( أوراتوريو المسيح)) لهاندل و (( أوتوريو الميلاد )) لجوهان سباستيان .... آيات من الموسيقي الدينية تشيد كلها بعيسي إذ جاء يحمل إلي الإنسانية التي نخرت فيها الأنانية ناموس الحب الذي يطهرها من الآثام ...
وبلغت التراتيل هذه الفقرة من الأناجيل : (قال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزاً .. فأجابه يسوع قائلاً : أن ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ... فأخذه إبليس إلي جبل عال وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له : أعطيك هذه كلها إن خررت وسجدت لي .. حينئذ قال له يسوع : اذهب يا شيطان .. أنه مكتوب : (( للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ! ... ))
هنا انطلقت من الشخص الغريب زفرة وصاح في أعماق نفسه : (( ليتني أطعته في ذلك الحين ! .. ))
وكان قد وصل ألي قصر ( البابا) فطلب المثول بين يديه للفور ولم يكن من الهين الوقوف في طريق ذلك الشخص .. لقد كان في عينيه شيه قوة لا تصد وأمر لا يرد .. لم يستطع أحد اعتراض سبيله .. لا القساوسة ولا الكرادلة .. فتحت أمامه الأبواب فدخل مطرقا خاشعا ألي مقر رئيس الكنيسة ... وسدد البابا إليه البصر ورآه في صورة رجل فقال له بصوت مرتجف :
_ أنت ؟!..
_ نعم أنا ..
_ وماذا تريد مني ؟
_الدخول في حظيرة الإيمان ..
_ ماذا تقول أيها اللعين ؟! ..
لفظها البابا هامساً وهو كالغارق في ذهول ... ولكن الزائر الغريب بادر بصوت ممتلئ بالصدق ملتهب بالإخلاص يقول :
_ ماعدت استحق هذا الوصف .. إني جئت أليك لأتوب .. والويل لي إن كنت تهزأ بي أو تشك في قولي .. لكل شئ نهاية ... وكان لابد لي أن أبصر الحق ذات يوم وأن أعود إلي الصواب .. كان من المحتوم أن أحن إلي صدر الله يوما وأن أزهد تلك الحرب الطويلة التي لانفع فيها و أن أهجر الإصرار والعناد وأنا أعاف مائدة الشر و أنا أتوق إلي طعم الخير.. نعم .. خذوا مني ماتريدون ... عذبوني أشنع العذاب .. أوقعوا بي أفظع العقاب ولكن برب السموات لا تحرموني مذاق الخير لحظة ... ماطعم هذا الشئ الذي تسمونه ( الخير) وتملكونه أنتم وتحبسونه عني ؟! .. لقد عشت منذ الأزل ... طالما كابرت وطالما تكبرت ..طالما صمدت وطالما صبرت .. طالما قلت إن ما في يدي هو كل شئ أني أكفي ذاتي بذاتي لا حاجة بي إلي غير ما أملك لنفسي و لمن تبعني في ممكلتي .. وما من أحد لم يتبعني برهة من الزمن .. رعيتي في كل مكان .. حتي هنا بين تلك الجدران .. علي الرغم من المسوح والصلبان ولكن ما قيمة ذلك الملك العظيم ما دمت أحس الحرمان أنقذوني بربكم .. أذيقوني الخير مرة ثم ألقوا بي في الجحيم .. لقد ألقيت السلاح و نبذت الكفاح .. ما أنا إلا مؤمن ..ذلك كل مطمحي الآن .. أن أصبح واحداً من هؤلاء المؤمنين الخيرين ممن تعج بهم الساعة البيع والكنائس ساجدين للرب مرتلين الأناجيل فرحين بعيد السيد المسيح مرددين أقواله مشيدين بأفعاله ... أيها البابا يا وكيل المسيح ... جئت أركع عند قدميك لتعمدني بيديك وتدخلني في الدين وستراني من خيرة أبناء الكنيسة الأبرار المخلصين ...
اهتز البابا في عرشه لهذه النبرات الحارقة الصادقة ولكنه لم يكف عن الهمس والدهش ..
_ أنت ؟؟ .. أنت إبليس ... تدخل الآن في الدين ؟..
_ ولم لا ؟ .. ألم يجئ في كلام المسيح : (( أقول إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلي توبة ..))
هل فرق المسيح بين شخص وشخص ؟.... أليس الجميع أمام المغفرة سواء ؟.. لم تغلقون في وجهي سبل التوبة ؟... إني أتوب .. أدخلوني في الدين .. استمعوا إلي ما انبثق في قلبي من إيمان !
وقع البابا في حيرة .. واضطرب وارتعد للفكرة ... وصاح كالمخاطب نفسه ... ( لا...لا ... لا أستطيع هذا ..)
وكان الأرغن يعزف أنغام ذلك (( الميس )) للبابا مارسيلوس من وضع الموسيقي القديم (( بالسترينا )) فرفعت فوق أجنحتها مخيلة البابا إلي آفاق من الأفكار : إذا آمن إبليس ففيم إذن بعد اليوم مجد الكنيسة ؟.... وما مصير الفاتيكان ومتاحفه وتحفه ومخلفاته الدينية الكبري ؟! ... كل شئ يفقد معناه وتذهب روعته وتولي مقاصده كنيسة (( سكستين )) التي تزينها تصاوير ميكايــل أنجلو عن (غواية حواء) و (الأنبياء ) و (الطوفان) و (يوم الحساب الأخير) ولوحات القاعات والمقاصير من ريشة روفائيل عن (خلق الله النور) و (الخروج من الفردوس) و (تعميد المسيح) ..
إن إبليس هو محور الكتاب المقدس بعهده ((القديم والجديد)) كيف يمحي من الوجود دون أن تمحي كل تلك الصور والأساطير والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتفجر خيالهم؟...
مامعني (( يوم الحساب )) إذا محي الشر من الأرض ؟ ... وهل يحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه أم تمحي سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قبلت ؟؟ ... ثم ما مصير العالم وقد خلا من الشر؟ ... هذه الحروب التي جعلت من أوروبا المسيحية سيدة البشر ؟... وهذه المنافسات الروحية والمنازعات الذهنية والمادية التي أوقد احتكاكها شرارة الفكر وضوء العلوم ؟!.... لا ... إن الأمر خطير ... وليس من حق البابا أن يفصل فيه .. إن تحطيم الشر وفصله من الدنيا سيحدثان انفجاراً لن يدرك الذهن له مدي ...
رفع البابا رأسه والتفت إلي إبليس بحرج وضيق :
_ ولماذا جئتني أنا دون غيري ؟... لماذا اخترت المسيحية دون بقية الأديان ؟...
_ هذا الاحتفال بعيد السيد المسيح ذكرني وألهمني ..
_ اصغ إليّ يــــا ... لست أدري بماذا أناديك ؟... أرأيت ؟! حتي اسمك بعد توبتك سيثير إشكالاً ! .. كلا ! إن الكنيسة ترفض طلبك .. اذهب اذا شئت إلي دين آخر ..و ولاه ظهره ! ...
***
خرج الشيطان من الفاتيكان خائباً ذليلاً .. ولكنه لم يفقد الأمل .. إن أبواب الله كثيرة فليلجأ إلي باب آخر .. ويمم شطر حاخام اليهود ...
استقبله الرئيس الإسرائيلي كما استقبله الرئيس المسيحي واستمع طويلا إلي أمنيته ... ثم التفت إليه وقال :
_ تريد أن تكون يهودياً؟..
_ أريد أن أصل إلي الله ..
فتأمل الحاخام قوله ملياً .. إذا عفا الله عن إبليس ومحي الشر من الأرض ... ففيم إذن التمييز بين شعب وشعب ؟ .. بنو إسرائيل شعب الله المختار .. لن يكون بعد اليوم مبرر لاختيارهم دون بقية الشعوب ولامتيازهم علي بقية الأجناس .... حتي السيطرة المالية التي صارت إليهم منذ أجيال ستذهب عنهم بذهاب الشر عن النفوس وزوال الجشع وموت الطمع وفناء الأثرة والحرص و الأنانية ... إيمان إبليس سيدك صرح التفوق اليهودي ويهدم مجد بني إسرائيل ...
ورفع الحاخام رأسه وقال بنبرة استهزاء :
_ ليس من عادتنا التبشير والاهتمام بأن يدخل في ديننا الغير .. حتي ولو كان إبليس ! ...اذهب عنا إلي دين آخر ..
***
فخرج إبليس من عنده مخفقاً مرذولاً .. ولكنه لم يقنط لم يزل أمامه باب : هو دين الإسلام ....
واتجه لوقته إلي شيخ الأزهر ..
واستقبله شيخ الأزهر وأصغي إلي قوله وما يسعي إليه ... ثم التفت إليه وقال له :
_ إيمان الشيطان عمل طيب ! .. ولكن ....
_ماذا ؟ .. أليس من حق الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجا؟... أليس من آيات الله في كتابه الكريم :
(( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)) ؟
هأنذا أسبح بحمده وأستغفره واريد أن أدخل في دينه خالصا مخلصاً وأن أسلم ويحسن إسلامي وأكون نعم القدوة للمهتدين ! .
وتأمل شيخ الأزهر العواقب لو أسلم الشيطان فكيف يتلي القرآن ؟.. هل يمضي الناس في قولهم (( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؟ ...)) ولو تقرر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن ... فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لما يشغل من كتاب الله قدراً عظيماً .. كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله ؟! ...
رفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلي إبليس قائلا:
_ إنك جئتني في أمر لا قبل لي به .. هذا شئ فوق سلطتي وأعلي من قدرتي ...ليس في يدي ما تطلب .. ولست الجهة التي تتجه إليها في هذا الشأن ..
_ إلي من أتجه إذن ؟... ألستم رؤساء الدين ؟ ... كيف أصل إلي الله إذن ؟ ... أليس يفعل ذلك كل من أراد الدنو من الله ؟!
_نعم .. ولكنك لست مثل الآخرين ...
_لماذا ؟ إني لم أرد أن أميز نفسي عن الآخرين .. لم أرد الارتفاع مباشرة إلي السموات العلي أحاديث الملائكة وأقابل الأنبياء ... كان ذلك في مقدوري ولكني أبيت الاعتصام بقدرتي والاعتزاز بشخصيتي .. لم أشأ طرق باب السماء
بصولجان كما يطرقها ملك ... وإن كان ملك الشر ... لم أشأ جلجلة السماء بضجيجي ولا زلزلة الأعالي بصياحي وأنا أضع سيفي و أسلم سلاحي ... وأخضع كما يخضع تاج لتاج ..
ولكني أردت أن أدخل باب الدين كمسكين .. و أن أزحف علي ركبتي معفراً رأسي الملكي بتراب الذل ملتمساً الهداية والمغفرة من البيع والكنائس والمساجد كما يلتمسها أحقر البشر وأضعف الآدمين ....
أطرق شيخ الأزهر لحظة وهرش لحيته ثم قال :
_ نية طيبة ولا ريب ! ... لكن ... علي الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي هو إعلاء كلمة الإسلام والمحافظة علي مجد الأزهر وأنه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك ..
_لك الشكر ...
***
قالها إبليس بذلة ومسكنة .. وخرج واليأس ملء نفسه ...ومشي في طرقات الأرض علي غير هدي .. ينظر إلي براءة الأطفال فيذوب قلبه حناناً إلي كل شئ طاهر برئ ... ويري الخير في أعمال الطيبين من الناس فيتحرق شوقاً إلي كل خير ...
ويطالع ثمار الصلاح والتقوي والإيمان معروضة في قلوب الأخيار المؤمنين كأنها في واجهات الحوانيت ... يمد إليها يداً قاصرة عاجزة ويشيعها بنظرة ملتاعة والهة ... الحرمان من الخير .. تلك هي النقمة الكبري التي صبت علي الشيطان ! ...
وصاح صيحة ألم بددت السحب ونفذت إلي السماء .. ولم يطق صبراً .. فانتفض انتفاضة من كادت روحه تزهق .. وتجرأ وصعد إلي الأعالي ...
دق بيديه أبواب السماء دقاً .. وطرق بروجها طرقاً وقد طار صوابه وكأنه شحاذ صائم يقرع بابا من أجل لقمة عند الغروب ...
فظهر له الملاك جبريل :
_ماذا تريد ؟..
_ التوبة ..
_الآن ؟! ...
_ هل جئت متأخراً ؟ ..
_ بل جئت قبل الأوان .. ليس لك الساعة أنا تغير النظام الموضوع ... ولا أن تقلب ما استقر من أوضاع ... عُد من حيث أتيت , وعش في الأرض كما عشت ...
_ أنت أيضاً ؟ ... آه ... ما عدت أستطيع ... أذيقوني الخير ! ...
_ الخير محظور عليك , إياك أن تمد إليه يداً ...
_ شجرة محرمة ؟ ...
_ عليك نعم ... ولن تجد ما يعينك على عصيان هذا الأمر ... كما عاونتك حواء من قبل ... يوم أذاقت آدم من شجرة الشر ! ...
_ أليست هناك رحمة ومغفرة ؟! ...
_ ليس للرحمة ولا المغفرة أن تمس نظام الخليقة ...
_ ما أنا إلا حقير في المخلوقات !...
_ نعم ... ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان ويزلزل الجدران , ويضيع الملامح ويخلط القسمات , ويمحو الألوان ... ويهدم السمات , فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة ... ولا للحق بغير الباطل ... ولا للطيب بغير الخبيث ولا للأبيض بغير الأسود ... ولا للنور بغير الظلام , بل ولا للخير بغير الشر , _ بل إن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك ... وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض مهبطاًلتلك الصفات العليا التى أسبغها الله على بني الإنسان !...
_ وجودي ضروري لوجود الخير ذاته ؟! ... نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله ! ... سأرضي بنصيبي الممقوت من أجل بقاء الخير ومن أجل صفاء الله .. ولكن ..هل تظل النقمة لاحقة بي واللعنة لاصقة باسمي علي الرغم مما يسكن قلبي من حسن النية ونبيل الطوية ...
_نعم ... يجب أن تظل ملعوناً إلي آخر الزمان .. إذا ما زالت اللعنة عنك زال كل شئ ...
_عفوك ياربي ! ... لماذا أحمل هذا الوقر العنيف ؟! ... لماذا كتب عليّ هذا القدر المخيف ؟ ... لماذا لا تجعل مني الآن ملاكاً بسيطاً من ملائكتك يباح له حبك وحب نورك ويثاب علي هذا الحب بالعطف منك والحمد من الناس ؟ هأنذا أحبك حباً لا مثيل له ولا شبيه .. حباً يستوجب مني هذه التضحية التي لم تدركها الملائكة ولم يعرفها البشر .. حباً يقتضيني الرضا بارتداء ثوب العصيان لك والظهور في لبوس المتمرد عليك .. حباً يستلزم مني احتمال لعنتك عليّ ولعنة الناس ... حباً لا تسمح لي حتي بشرف ادعائه ولا بفرح الانتساب إليه .. حباً يستلزم مني احتمال لعنتك عليّ ولعنة الناس .. حباً إذا كتمه النساك ملأ صدورهم نوراً .. وأنا أكتمه ولكن نوره يأبي من صدري اقتراباً ...
وبكي إبليس ..
وإذا بدموعه تتساقط علي الأرض .. لا قطرات من ماء السحب بل قطعاً من النيازك المعتمة و أحجار الشهب ! ..
فبادر جبريل مرتاعاً يسكته :
_ حسبك ! .. إنها تتساقط علي غير هدي فوق رؤوس العباد ! ...
فكف إبليس في الحال عن البكاء وقال بمرارة أليمة وكأنه يخاطب نفسه :
_ نعم ... حتي عبراتي كوارث ! ..وكفكف من دمعه متجلداً .. ولطف جبريل من لهجته قائلاً :
_ تحمل مصيرك .. وقم بواجبك وامض في مهمتك لا تتململ ولا تتوجع ولا تثر ..
_ أثور ؟ .. لو أني أردت الثورة حقاً لثرت وعصيت وخرجت علي النظام وشققت عصا الطاعة بمجرد صمتي لحظة ووقوفي عن أداء مهمتي برهة .. وامتناعي عن إيحاء الشر دقيقة .. ولكانت الأرض الآن ياجبريل كما وصفت :
مهدمة الأركان .. مزلزلة الجدران .. ولكني أحب ولست أثور .. وحبي لله وحده سر هذا التماسك في بناء أرضه ! .. وسر هذا التناسق في قوانينه ونظمه ! ..
_ اسمع نصحي .. عد إلي عملك ! ..
_ سأعود متدثراً بعباءة لعنتي .. دون أن أدري متي أخلعها ؟..
إن الممثلين علي الأرض يرتدون أحيانا أدوار الخيانة والغدر..
وهم يعلمون أن لخلعها ساعة موقوتة يعودون بعدها شرفاء أطهاراً ... وقد رد إليهم الاعتبار .. أما أنا ؟! ..
_ اهبط الأرض وتحمل .. من يحب فليتحمل !
_ إني أفعل أكثر من الاحتمال .. إن من يمت في معركة من أجل الله يكتب عنده في الشهداء .. و أنا اتجمل في سبيله أكثر من الموت .. ليتها كانت معركة .. ليته كان الموت .. ليتني كنت من جنوده ..
يجب أن أعيش لأخالف من أحب ! .. إني أمقت نفسي وألعنها في كل لحظة مرات .. لا أستطيع أن أموت .. حتي أقتل نفسي أو أدفع بها إلي القتل في سبيل الله ! .. ولكني أنزل بها من صنوف الكره وضروب البغض ماهو أبشع من القتل وليس لي مع ذلك أن أتطلع ألي رحمة ولا أن أطمح إلي مغفرة ولا أن أطمع في أن أسلك في عداد المجاهدين ..
ولمح جبريل في عينيه تلك القطرات تترقرق .. فعاجله قائلاً :
_ لاتبك ... لا تبك ! .. لا تنسي أن عبراتك كوارث وضحكاتك كوارث .. لا تكثر من الانفعال رحمة بالناس .. اذهب واصبر والزم الاعتدال ..
أطرق إبليس ملياً ... وفكر طويلاً .. ثم تحرك أخيراً وهو يقول في شبه همس :
_ صدقت !..
***
وترك السماء مذعناً .. وهبط الأرض مستسلماً .. ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره وهو يخترق الفضاء .. رددت صداها النجوم و الأجرام في عين الوقت كأنها اجتمعت كلها معها لتلتقط تلك الصرخة الدامية :
_ إني شهيد ! .. إني شهيد !