![]()
ماذا تصنع العوالم المحيطة والمطبقة بالكاتب؟ ومن أين يُخلَق الإبداع، حين يغرق الكاتب في عالم خاص، أو عالميْن؟ وهل من الجائز أن نطلق عليه اسم الراوي؛ لأنه ينقل الحكايات والقصص التي نراها، كلَّ يوم، ونمرُّ عليها، كلَّ يوم، فكلُّ يوم نمرُّ في الحارة، ومع البحر نؤلف الحكايات، ونشحذ الذاكرة بزيارات، فكيف يتحوَّل البحر إلى ملهم، وكيف تصبح الحارة الأداة الأولى للتعبير، والمحرِّك الأساسي لوحي الإلهام؟
في عوالم الكاتب السوري الراحل، حنّا مينة، يحصر النُّقاد عوالَمه ما بين الحارة الشعبية، حيث مظاهر الفقر، والبحر أو فيه كما يقول، وهو الميدان، الصاخب لكل الصراعات الخفية والظاهرة التي تناولتها السينما والدراما، وكان لها مكانها في أدب حنّا مينة، ولم يكن التناول لهذا العالم تقليدياً، بحيث قال واكيم أستور، في تقديمه رواية الدقل، إن اختيار عالم البحر ما هو إلا رمزٌ للحياة بأكملها.
كل كاتب بحاجةٍ إلى قارئ، ونستشفّ من حولنا أن الفقراء يرون في القراءة عوالم خفية مُنجية من واقع مؤلم، وأن من يكتب عنهم هو نصيرهم، وأنه لسان حالهم، ولكنَّ ذلك مشروطٌ بأن يحمل لهم الأمل، كما فعل حنّا مينة في كتاباته الكثيرة عن حارات اللاذقية، فهو لم يصوّر الفقراء بائسين محرومين وكادحين ومسحوقين، بل كانت له رؤيته المفاجئة، والمدهشة للقارئ، في صوغ ما لا يُتوقع من هؤلاء من أحداث وتصرُّفات، بحيث تصل إلى حد المثالية، ففي رواية "نهاية رجل شجاع"، كانت الأحداث تدور حول رجل يعمل بشكل فردي، ولم تُسعفه شجاعته لكي ينتصر، ولكن الكاتب حنّا مينة كان يفاجئنا بأن البطل (مفيد) كان ينتصر في كلِّ مرحلة، حتى بعد بتر ساقيه، وحتى حين قرَّر الانتحار، بعد أن دافع عن حرمة بيته باستماتة، ولم يغفل عن تصويره كتلة بشرية لها قلب ينبض ويحب "لبيبة".
سرُّ نجاح حنّا مينة، على مدى مشواره الأدبي، أنه لم يكن يكتب للنخبة، كما يقول، وربما هذا الخطأ الذي يقع فيه الكتّاب الشباب في الوقت الحالي. كما أنه يخلط الماضي بالحاضر، ولا يرى انفصالاً بينهما، ويرى أن الكتابة للنخبة تعني الدوران في المتاهات النفسية لمثقفٍ آخر، والقارئ يريد أن يرى صورته ومشكلاته، وهذا ما لوحظ في رواية "بقايا صور"، حيث أشعرت الأم التي صوَّرها حنّا مينة آلاف القرَّاء، من خلال رسائلهم إليه، بأنها أمُّ كلِّ واحد فيهم، وهو باختصار قدَّم بطلا يحبّه القارئ، وهو الأم، وهذه لعبةٌ لا يجيدها إلا قلَّة من الروائيين، في تقديم بطلٍ يحبُّه القارئ، أو يكرهه.
أما مزج حنّا مينة بين الماضي والحاضر فهذا في رأيه؛ لأنه ليس ثمّة ماضٍ خالٍ من الإضافة إلى المستقبل، وليس ثمّة حاضر إلا وهو في الصيرورة إلى الماضي، والمهم أن يلتقط الكاتب لحظة الأزمة في العمل الروائي، بحيث يصل إلى المادّة التي تتحدّث عن الحاضر، وقابلة للاستطالة إلى المستقبل، ولا يرى حنّا مينة أنَّ هذا الأمر من السهل أن يتم، خصوصا أنه قد بدأ في سنواته الأخيرة يجد صعوبة في تذكُّر وقائع طفولته البعيدة (توفي عن 94 عاماً)، ولذلك عمد إلى توليف ما يذكره من أحداث، وبنائها بناء جديدا، بدون حَرْفية، ولكن بحِرْفيَّة مطلقة.
لو أن حنّا مينة نشأ في بيئة ثرية، هل كان سيكتب عن عوالم الفقراء بالتفصيل، حتى بائعات الهوى، وهو الذي كان يكتب على الأكياس في الميناء، حيث قضى طفولة بائسة، وتنبَّأ له "معلّمه" بأنه سيصبح كاتباً؟ وللمناسبة، حين كنت أقرأ على جدِّي الأمِّي رسائل عمِّي المغترب، كان يعلِّق، في كلِّ مرة، بأنني أُشبه خطيب المسجد. وكذلك علَّق معلم ابني في الصفِّ الأول، حين قرأ رسالة توصيةٍ قصيرةٍ أرسلتُها إليه بشأن الصغير، فقد أعادها إلي مع عبارة "كاتبة مستقبلية واعدة".
سما حسن