من رواية ( دارنا العربية ) :
لم أستوعب في تلك الفترة من عام 1978 لماذا ارتبط مفهوم المذيع التلفزيوني بمكان سكنه وطريقة عيشه ؟ كان جمهور المشاهدين يتوقعون ربما أنَّني أسكن شقةً أنيقةً في حيٍ المزرعة أو حي القصور أو حي التجارة على أقل تقدير . وأعتقد أن السيدة هدى البكري شقيقة زميلتي المذيعة اعتدال البكري اعتقدت ذلك أيضاً قبل أن تُعرب عن رغبتها في زيارتنا لتتعرف إلى زوجتي زهرية عقيل وتستمع إلى نصائحها بعدما علمت عن خبرتها في قضايا الأسرة . كانت السيدة هدى ثرية وجميلة وكانت تقطن مع زوجها المهندس وأطفالها طابقاً هائل المساحة تطلُّ من نوافذه الغربية على قصر الضيافة الذي يبعد عنه بضعة أمتار والذي خطب من شرفته كثير من الرؤساء لعلَّ أهمهم شكري القوتلي وجمال عبد الناصر. انتابنا بعض القلق زهرية وأنا ليس بسبب الفرق الشاسع بيننا وبينها في السكن والغنى ، وإنما في تأمين حال مناسبٍة لاستقبالها . كانت دارنا العربية آخر دارٍ في حارة ضيقة مغلقة , وكان لابد للسيدة هدى أن تركن سيارتها الفاخرة في ساحة الدوامنة التي هي جزء من حي باب توما الأثري . ثم تمشي رويداً رويداً وبحذر على اسفلت الحارة المُرقع كثوب قديم كي لاتتعثروتقع . في تلك الأيام لم تك أكياس البلاستيك معروفة ، وكان السكان يجمعون قمامتهم في صفيحة من التنك اسمها ( قصديرة زبالة ) ثم يفرغون محتوياتها من قشور الخضر والفواكه في زاوية الساحة إلى جانب مدخل حارتنا بانتظار عامل النظافة الذي يأتي في الصباح ليجمعها ويفرغها في عربته . وضعنا زهرية وأنا خطة تقضي بجمع تلك القمامة وإفراغها في صندوق خشبي وجدناه في قبودارنا وتغطيته بقطعة خشبية رقيقة كان اسمها ( بلاكيه ) سوف نفعل ذلك بعد أن نشطف ونكنس الحارة كلها بدءاً من الساحة . وسوف ننظف البحيرة من العشب الأخضر الذي نما في أسفلها وعلى أطرافها ونطمئن إلى أن النافورة تطلع الماءقوساً ينهمر مطراً على ماء البحيرة الموشى بزهرات الياسمين . وكان علينا أن نتأكد من أن جيراننا في الغرف المحيطة بساحة الدار لن يتشاجروا مع أطفالهم ويصدرون أصواتاً قوية ، ولن يجلسوا أمام غرفهم بثياب نومهم بعدما شرحنا لكل منهم أهمية ضيفتنا . حتى أن ماجد صاحب الدكان الوحيدة في الساحة بدل ثيابه وتطوع لمرافقتها إلى دارنا عندما تصل ، كان ماجد سعيداً بهذه المهمة بعد أن اشترينا منه علبة شوكلاته وأنواع الفواكه . وصلت السيدة هدى برفقة ماجد الذي همس لي قبل أن يعود إلى دكانه : شو ها العطر اللي حاططو الست عبى الحارة .
أعربت هدى عن دهشتها من نظافة الساحة والحارة ومنظر البحيرة وشجرة الكباد التي سمقت ثم انحنت فوقها مدلية ثمرات الكباد الضخمة . كانت عشرات الوجوه من أطفال ورجال ونساء الدار خلف النوافذ تراقب الضيفة الأنيقة ، وكنا زهرية وأنا نستعجل إدخالها إلى غرفتنا التي ظلت معتمة بالرغم من اللمبة الجديدة بقوة مائة وات التي تتدلى من السقف بسلكين أبيضين مجدولين . كان سرير نومنا يحتل صدر الغرفة بينما أريكة الجلوس تستند إلى الجدار الأيمن . أما الثلاجة القصيرة البيضاء فتقبع أمام الجدار الأيسر وإلى جانبها ماتشبه المكتبة ( خرستان ) لها رفوف انتظمت عليها أنواع البقول والبرغل والأرز والمعكرونة . وكان لها ستارة مخملية تغطي محتوياتها . جلست هدى إلى جانب زهرية واستغرقتا في الحديث عن الأزواج والأطفال فيما جلست أنا مقابلهما على كرسي قصير من القش وأسندت ظهري إلى ستارة ( الخرستان ) وقد توليت في الأثناء تقديم واجب الضيافة والمشاركة في الحديث كلما اقتنصت فرصة . فجأة تحركت الستارة وبدا كأن شيئا يداعبها من داخل الخرستان . كانت ضيفتنا وزهرية منهمكتان في الحديث من حسن الحظ ، وكان عليَّ معالجة الأمر دون أن تنتبها . أدخلت رأسي خلف الستارة فوجدت البرغل منثورا على أرض الخرستان ، ثم رأيت ذنب الفار يتحرك تحت الرف الثاني ، حاولت القبض عليه فلم أفلح . بحثت عن الفأر فلم أجده ، فعلت كل ذلك دون جلبة ، ثم عدت إلى جلستي . التفت زهرية نحوي وأدركت الأمر . أشرت لها بإيماءة قصيرة لتلهي الضيفة بالحديث ففعلت . ارتجفت الستارة ثانية ، نظرت الضيفة نحوها حركت ظهري لأوهمها أنني من حركتها . شاغلتها زهرية بالحديث ثم اقترحت عليها أن تتفرج على النقوش الرائعة التي توشي سقف غرفة أهلي . وهكذا أتاحت لي الفرصة لملاحقة الفأر والقضاء عليه . لكنني لم أنجح أبداً فقد اختفى في جحر ما لم أعثر عليه . أحضرت ثلاث كراس من القش على عجل ووضعتها إلى جانب البحيرة ، وعندما خرجتا من غرفة أهلي قلت لهما تفضلا إلى هنا نشرب القهوة إلى جانب البحيرة . كنت وزهرية قلقان أن ترغب ضيفتنا في العودة الى الغرفة . تركتنا زهرية فيما شاغلت هدى بالحديث عن تاريخ بيتنا الذي يعود إلى مائتي سنة على الأقل . وحين عادت كانت تحمل محفظة هدى اليدوية ، وقالت : خفت أن ننساها في الأوضة . مضت نصف ساعة أخرى قبل أن تودعنا ضيفتنا بعبارات الامتنان لاستقبالنا وحفاوتنا . وهي ربما تضحك الآن إن قرأت القصة بنسختها الأصلية .
من روايتي ( دارنا العربية ) :
حتى العام 1978 لم أك أملك تلفزيوناً خاصاً في غرفتنا المعتمة الوحيدة التي كنت أسكنها مع زوجتي وطفلتي الوليدة الأولى زينا . وكنا نتابع برنامجي السالب والموجب في غرفة أهلي المجاورة الفسيحة مع جمهور غفير من الجيران والأقارب . بقية الغرف التسعة من دارنا العربية الواسعة في حي باب توما الدمشقي العتيق كانت مستأجرة من سبع عائلات لبنانية وعازبين . وكنا نعتاش من أجرها البالغ مائة وخمسين ليرة شهرياً . كانت الدار أشبه ماتكون بسوق مغلقة لاتتوقف فيها حركة المشاة وجلبتهم . فقد كان عدد سكانها يتجاوز الخمسين امرأة ورجلا وطفلاً ، وكل أولئك يستخدمون مطبخا هائل المساحة في زاويتها اليمنى وآخر صغيرا في الدور الثاني دائم العطب في مواسيره وصنبور مائه . أما الحمام الوحيدة التي تعمل على الحطب فكانت تحتل جزءاً من المطبخ الكبير ، وكان على العائلات أن تحفظ دورها الأسبوعي لتستخدمه مدة ساعة واحدة لاتزيد ، وإلا دبَّ الخلاف وعلت الأصوات وتدخل العقلاء لفض النزاع . كانت غرفتي هي ذاتها الجزء الأسفل من الليوان الذي كان في عهد أصحاب الدار السابقين وقبل أن يتحول إلى غرفتين فوق بعضهما المكان الأثير لجلوسهم مع ضيوفهم على سرر مُمدةٍ تحفُها جدرانُُ موشاة برسوم لأغصان وورد مُختلِف ألوانها ويعلوهم سقف هائل الإرتفاع استند إلى قوس من قطع الحجر الغرانيتي الأسود والأبيض ، وقبالة بحيرة من الرخام تطفُّ على حوافها المياه لتستقبله مصارف صغيرة زرعت حولها باتقان ، فيما تتلوى المياه المتدفقة من النافورة التي تتوسطها ، وكأنَّ البحيرة مسرحُُ يضج بموسيقى يصدح بها الماء ، وكأنَّ النافورة راقصة متلألئة بالضوء بهية . خال والدتي واسمه خالد هو صاحب فكرة تحويل الليوان إلى غرفتين . وهو كان ولي أمرنا بسبب غياب والدي الدائم السفر إلى الكويت وكان لايعود قبل ثلاثة أشهرثم يمضي ثانية بعد أيام . خالنا خالد فعل بداره مافعله بدارنا وحول مساحتها الصغيرة إلا بناء طابقي من ثلاثة أدوار أسكن فيها مثلما أسكنا في دارنا من جماهير مكتظة ، فغالب الفقروغَلبه ، كما أراد لابنة أخته أن تفعل . عندما تنسى الدولة فلاحي الضيعة وتتركها وقد جفت ينابيعها وآبارها وأنهارها ، وانعدمت فرص العمل فيها ، فسوف يرحل أهلها إلى المدينة ليستمروا في العيش ، ولن يلتفتوا إلى تراث الأغنياء من رسوم ونحت ورخام في تلك الدور التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وصولاً إلى العهود الرومانية والأموية والمملوكية ، ثم باعوها لينتقلوا بعدما تداعت إلى أبنية حديثة في مناطق مستحدثة مثل المهاجرين وأبو رمانة . عشت نصف عمري طفلا ويافعاً ورب أسرة في تلك الدار ، وسوف أقص عليكم في روايتي ( دارنا العربية ) حكاياتٍ لاتنسى ، ومنها قصة ذلك الفأر الذي قرر الظهور في غرفتي عندما كانت تزورنا سيدة ثرية تنتمي لعائلة دمشقية عريقة قادمة من بيتها المطل على ساحة قصر الضيافة .