Image may be NSFW.
Clik here to view.
ربما علينا أن نشكَّ في أولئك الذين يدفعون إلى الأشباح التي تدفع عجلة الشهرة ثمن ركوبهم هذه العربة السحرية. لا نكون "تآمريين"، لو أننا شككنا في جدارتهم بما وصلوا إليه، وليس علينا خشية الاتهام بالصدور من نظرية المؤامرة. فكيف جاءت الشهرة لهؤلاء، لماذا، وبأيّ ثمن؟ نعرف، كلنا، من لم يدفع درهماً واحداً من رصيده المعنوي والأخلاقي مقابل الشهرة التي صنعتها جدارته وموهبته. أولئك الذين يُسارعون إلى دفع الثمن، تحت الطاولة أو فوقها، مشكوكٌ في أن جدارتهم، وحدها، كانت وراء نجاحهم وشهرتهم، والأمثلة كثيرة في غير مجال. ولكن، هنا نحن وجهاً لوجه أمام مثاليْن راهنيْن ساطعيْن: محمد علي كلاي وأمين معلوف. والغريب أن أحدهما أخذ مقعد الثاني (المفترض) في التاريخ. فمَنْ يطلب موقفاً، أخلاقياً ومبدئياً وإنسانياً وتقدمياً، من رجلٍ يصوِّب لكماتٍ سريعةٍ، ساحقةٍ، إلى "عدو"، بائس، محشور مثله في قفص؟ موقفُ رجلٍ كهذا، في العادة، لا يتجاوز قفازاته ومساحة الحلبة التي يتحرّك عليها. بيد أن صاحب القفازات سطَّر درساً لا يُنسى. قال، وهو الفقير، ذو الأصول الأفريقية، غير المتعلم في "الليسيه"، أو غيرها، لسادة بلاده إنه لن يخوض حربهم في فيتنام. لن يقتل، ولن يشارك في قتل بشرٍ يبعدون عن بلاده آلاف الأميال. وقال احبسوني، ابعدوني عن الحلبة (كانت محور حياته)، ولكني لن أخوض حربكم هذه.
ومتى اتخذ كلاي هذا الموقف؟ في الزمن الذي لم يكن فيه الرجل الأسود يساوي شيئاً في "سيدة" العالم الحر: أميركا. في الزمن الذي كان للبيض حافلاتهم، مسارحهم، صالاتهم السينمائية، حدائقهم، جادّاتهم، التي يمنع على السود (وربما الكلاب) دخولها! هذا ما جعل كلاي أكثر من مجرد بطل ملاكمةٍ لا يُقهر. كثيرون هم أبطال الملاكمة والمصارعة ولاعبو كرة القدم والتنس والغولف (ومئات الرياضات الأخرى) الأفذاذ. لكن، لا يوجد سوى محمد علي كلاي واحد. أعني سوى رجل واحد، لا صوت لأمثاله، قال لحكومة الولايات المتحدة الأميركة بعظمة قدرها: لا. الموقف ليس حكراً على الكتاب والمثقفين والسياسيين الذين يميزون أنفسهم عن عباد الله بلا حق، لكنه ارتبط، شئنا أم أبينا، بهؤلاء. لأنهم يتنطَّحون للعمل في الحقل العام، حيث لا ينفع أن تدفن رأسك في الرمل، عندما تهبُّ العاصفة. الناس تطلب الموقف، بحقٍّ أو من دونه، من صاحب قلم. ممكن للكلمة أن تصبح لكمةً، لكن الثانية غير ممكنة، بيد أن محمد علي كلاي فعلها. جعل القفازات تتكلم، وحوَّل الحلبة إلى عالم. في المقابل لم ينهض صاحب القلم بما يفترض به من دور، ليس حيال العالم، بل أولى: حيال بلاده وجوارها المنكوبين بالحروب، المحكومين بالحروب، ما دامت إسرائيل، مدية الشرِّ، مغروسة في قلب المنطقة.
لا موقف لأمين معلوف فعلياً، على هذا الصعيد، مثلما فعل كتاب أهمّ منه وأكبر (ماركيز، ساراماغو، كويتزي، نادين غودميرر، سوينكا، غراس إلخ) في خصوص ما تفعله إسرائيل بفلسطين ولبنان. ليس لدى هذا الكاتب الفرانكفوني (ابن الاستعمار الفرنسي بكل معاني الكلمة) ما يقوله. لا في كلامه المباشر ولا في كتبه. ولولا هذه الضجّة المثارة حول مقابلته مع قناة تلفزيونيةٍ إسرائيليةٍ ما كتبت عنه. فمنذ زمنٍ، كففت عن قراءة ما يكتب. فلا شيء لدى معلوف، الناطق باسم وفد التفاوض اللبناني مع المحتل الإسرائيلي، في أعقاب اجتياح لبنان وحصار بيروت، ما يقوله لي. قراءته مضيعةٌ للوقت. إنه ليس أكثر من كاتب "بست سيلر"، حتى لو وضعته فرنسا، لأمرٍ ما، في أكاديمية "الخالدين". ففي زمنٍ مشطور بالسكين، ومزيِّح، بعنفٍ، بالسكين أيضاً، لا مكان للاختباء، إزاء قضايا العصر، في ظلال الكلمات المراوغة، حيث يمكن للأحمر أن يكون رمادياً.
كل ما قاله وكتبه معلوف يتلطّى في الظل، ويتلكأ عند التخوم المنضبطة. لا هو هنا، ولا هو هناك. وبما أن "التسامح"، في حالتنا العربية يعني أن يتخلّى السجين عن حريته، وصاحب البيت عن بيته، والقتيل عن قاتله، والمسروق عن الحرامي الذي سرقه، فلا بأس أن يعتنقه معلوف، محوّل التاريخ إلى حكايةٍ وخرافية وتسلية. كلنا في مركبٍ واحدٍ يُدعى العالم، أو الحياة، أو كوكب الأرض، وهذا مركبٌ لا يتسع لمزيد من "الخصام"! هذا ما سخر منه الكاتب والصحافي البريطاني، روبرت فيسك. فها هو فيسك يذكِّر الكاتب الإنسانوي، الفرانكفوني، عضو مجمع "الخالدين" الفرنسي، المتعالي على الجراح، بأنّ بلاده التي فقدت في اجتياح إسرائيل وحصار بيروت، وحدهما، نحو 17500 قتيل لبناني وفلسطيني، غالبيتهم مدنيون. عدا عن تدمير نصف بيروت الغربية.
أخيراً أسأل: لِمَ لم ننتبه إلى مقال روبرت فيسك الذي كتبه عن أمين معلوف لمناسبة دخوله "مجمع الخالدين" الفرنسي قبل خمسة أعوام؟ لا أعرف بالضبط. ولكن، دعوني أفسِّر الأمر هكذا: لأن أمين معلوف لا يعنينا كثيراً، فلم يؤثر هذا "الكشف" كثيراً عند من وقف عليه، ولا بدَّ أن هؤلاء كثر. فروبرت فيسك ليس كاتباً مغموراً في مجاله، ولا هو نكرة بيننا. لم نهتم بأن معلوف كان ناطقاً باسم وفد التفاوض اللبناني مع المحتلين الإسرائيليين (للبنان وقتها وليس لفلسطين فقط) لأنه لا يهمنا، لأنه يكتب لعالمٍ لسنا منه، لأنه لا موقف له مما يجري في عالمنا (وهذا بحدّ ذاته موقف).
المصدر: العربي الجديد - أمجد ناصر
Clik here to view.
