![]()
الأديبة اللبنانية جميلة حسين
بدريّة
أمسكت بدرية يديّ طفلتها الصغيرتين، وراحت تنفخ بهما أنفاسها. شهيقها وزفيرها تصاعدا بشكل هستيري، أرادت أن تبث أكبر قدر من الدفء إلى جسد رضيعتها التي ولدت قبل أسابيع. كانت تسابق البرد الذي فتك بجسد الطفلة، وحوّله إلى كتلة لحمية زرقاء.
المرأة العشرينية، التي نزحت من وطنها سوريا هربا من القصف والموت اليومي، اعتادت الجلوس يومياً قرب زاوية مطعم في أحد الأحياء البيروتية. رغم التعب الذي عكس شحوباً على وجهها، احتفظت بجمال خاص. بشرتها البيضاء غالباً ما لفتت انتباه المارة، وكذلك صوتها الخافت الذي ينطوي على مزيج من أنوثة مقموعة، وخوف متعاظم من المحيط.
بدرية لم تكن ملحاحة في طلب المساعدة، تقولها مرة واحدة ثم تصمت، وكأنها ندمت.
كان واضحاً أن فعل التسول طارئ على حياتها، ثمة عالما آخر تنتمي إليه هذه المرأة، دفعتني حشريتي إلى اكتشافه.
كنت أراها صباح كل يوم اثناء ذهابي إلى عملي، أكثر ما لفت انتباهي، خوفها وتوجسها، كانت مرتابة دائماً، تحاول الهرب من أي موقف يسبب الإحراج لها، تختصر قدر الإمكان المحادثات مع سكان المنطقة عبر تكرار جمل محايدة لا تعطي أي فكرة عن حياتها.
ترددتُ كثيراً قبل أن اقترب منها، كنتُ منقسمة شعورياً بين رفضي اقتحام خصوصية الأخرين، واندفاعي لمساعدة امرأة دفعتها الظروف القاسية الى الجلوس على قارعة الطريق.
الأمتار التي فصلتني عنها، كشفت قدراً كبيراً من الألم الذي تخفيه بداخلها. سألتها عن حالها وحياتها، وكالعادة رددت جملاً عامة لا تحمل أية معلومة أو موقف. تأكدت لحظتها كم يخشى النازحون السوريون في لبنان إعطاء تفاصيل عنهم وعن حيواتهم ومواقفهم السياسية، لأنهم يجهلون مواقف من يلتقون بهم، حيث انقسم اللبنانيون بين مؤيد للنظام وداعمه، وآخر مؤيد للمعارضة. لذا كانت بدرية تردد دائماً: "الله يصلح الحال، والله كبير تخلص الحرب ونرجع ع بلادنا. النزوح بهدلة وقهر وجوع"...
هذا اللقاء القصير خلق ثقة بيننا، خيطا رفيعا تجاوز التعاطف، ونسج نواة عالم دافئ احتوانا معا. كانت بدرية تغطي جزءا من وجهها، الفم تحديداً. كلماتها القليلة عبرت الشال الأسود الذي لف رأسها وكامل جزئها العلوي. كانت أقرب إلى امرأة مصنوعة من الخوف، تتكوًر على ذاتها وتتلفت حولها وكأنها تنتظر مصيبة ما. الجمل القصيرة التي تبادلناها تبلورت بعد أيام حديثا طويلا.
في طريقي إلى عملي، نظرت نحوها محاولة استدراجها إلى مبادرة ما، تخفف عنها ألما لم أعرفه حتى الآن، جاء نداؤها كمنفذ للدخول إلى عوالمها الكئيبة.
تقدمت نحوها، كان صوت بكائها يتماوج بين الاختناق والنشيج، حركات جسدها تشي بارتباك وشعور خفي بالخجل، راحت تروي لي سيرتها وكأنها في قفص اتهام.
تقول: "من منطقة تشتعل فيها الحرب اتيت، ذقت مرارة الوجع خلال السنوات الماضية، شقيقيَّ قتلا في المعارك بعد التحاقهما بالجيش الحر، كذلك زوج أختي وعائلة عمي قتلوا نتيجة قصف براميل النظام. كان أفراد عائلتي ينقصون كل يوم، الحرب ابتلعت أكثرنا، ومن بقي منّا نهشاً للخوف والتهجير".
وتتابع: "هرباً من هذه الجحيم قدم زوجي إلى لبنان، وعمل في أحد ورش البناء. أقمنا في غرفة صغيرة في احد احياء بيروت الفقيرة، وعشنا بالنقود الشحيحة التي يحصل عليها زوجي من عمله، لكن اشتداد المنافسة أدّت الى استغناء صاحب الورشة عنه، ولم يعد باستطاعتة دفع إيجار الغرفة التي هدّد صاحبها بطردنا فيما لو تأخرنا بالدفع، مرددا امامنا:" ما معكن مصاري تدفعوا فلوا او ارجعو ع بلدكم"...
كان الشعور بالذنب يأكل بدرية حين روت لي قصتها، شعرتُ أنها ندمت على ذلك. لكن المبرّر كان أقوى منها فقد طلبت مني المساعدة كي لا تبيت مع عائلتها في الشارع.
أصغيت إلى حكاية المرأة، والقهر سيد الموقف، فكرت في العائلات التي تبيت في الشوارع، تخيّلت بدرية مع عائلتها ينامون في إحدى الزوايا وسط البرد القارس.
وفكرت في طريقة ما تجني منها المرأة مدخولاً مادياً يساعدها في معيشتها. كان الحل الأفضل أن تعمل في تنظيف البيوت على أن أساعدها في تأمين زبائن من خلال علاقاتي في الحي وخارجه. لكن بدرية ارتبكت حين عرضت عليها الفكرة، وحاولت خلق ذرائع واهية، فهمت حينها أنها لا تريد القيام بهذا العمل لسبب مجهول.
ذلك السبب، توضّح بعد أيام.. عندما سمعتُ صراخاً متصاعداً وأصوات استغاثة من المكان الذي تجلس فيه بدرية. جمهرة من الناس متحلّقة حولها وعلامات الدهشة بادية على وجوههم.
حين تقدمت، رأيت المرأة تسند ظهرها الى حائط وتكزّ على أسنانها بشدة. أصبت بصدمة منعتني من فهم ما يجري، إحدى الواقفات قالت "إنها أعراض ولادة".
كانت بدرية حاملا، لذا رفضت العمل في المنازل، وأخفت الأمر عن الجميع، لباسها الواسع وجلوسها معظم الوقت على الأرض ساعداها على اخفاء الحمل.
تضاعف وجعها، وتصاعد أنينها، فيما غطى العرق وجهها. المجتمعون حولها لا يعرفون ماذا يفعلون صرخت أحداهن: "فقشت ميّة الراس، المرا رح تولّد بالطريق".
اقتربتُ منها وسألتها عن زوجها، أعطتني رقم هاتفه، لكن جواله رنّ مرات عدة ولا من مجيب.
نقلنا بدرية إلى مستوصف مجاني قريب، لأن أي مستشفى سترفض استقبالها.
في اليوم التالي، ذهبت لأسال عنها، قالت لي الممرضة، لقد انجبت بنتا، وجاءت قريبتها وأخرجتها من هنا.
أسابيع قليلة فصلت بين قدوم ابنة بدرية وموتها، الابنة التي كانت أمها تخفي وجودها في بطنها بارتداء ألبسة فضفاضة. الابنة التي جمّدها البرد .... و القهر.
سيطر عليها الخوف تماماً، وهي تشاهد جسد الرضيعة مُزْرقاً وباتت حركته شبه مشلولة. حاولت أن تهزه عدة مرات كمن يلعب بدمية، انهمرت دموعها وسقط المنديل الذي يغطي شعرها وغطّى جسد ابنتها الطريّ...
جميلة حسين. حائزة على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها
- شاعرة وكاتبة وأستاذة جامعية ـ عضو اتحاد الكتاب اللبنانيين