![]()
حليمة
تقول حليمة:
"أكره الروائح. أتمنى أحياناً، لو أنني فقدت حاسة الشم، وان يصاب أنفي بداء ما يعطل عمله. منذ ذلك اليوم حين اقتحمت منزلنا ثلة من الجنود يتقدمهم ضابط مسؤول تابع للنظام، عاثوا بنا ضربا وقتلا واغتصابا. منذ تلك الليلة وأنا اتنشق رائحة واحدة سيطرت على وجودي، وباتت دليلاً دائماً على إذلالي واغتصابي بعد ضرب مبرح.
الرائحة المنبعثة من بقع العرق، التي جفت على أجزاء البدلة العسكرية، التي كان يرتديها ذلك الجندي الضخم، تخرج لي من كل مكان، تقيّدني، تحاصرني، تشل تفكيري، وتحوّلني إلى مستعبدة مسلوبة الإرادة.
عندما همّ الجندي على اغتصابي بعد أن امره قائده بذلك، أمسك بشعري ومرّر أنفي على ثيابه، لم أُدرك لحظتها دلالة ذلك الفعل، لكن بعد استعادة ذكرى ما حصل، مرات متكررة، فهمت أن الجندي أراد أن يهزمني برائحته ويترك علامة لا تُمحى عن العار الذي سببه لي.
منذ دخولهم المنزل، رمقني قائد المجموعة بنظرة حادّة أرعبتني، وأشعرتني أنني قد أكون أداة انتقام. تكرّرت النظرة بعد كل سؤال عن شبان مسلحين ينتمون للجيش الحرّ الذين اتُهمنا بالتستر عليهم. فتشوا البيت وهددونا بهدمه، قيّدوا أخي البالغ من العمر سبعة عشر عاماً. رموه في الزاوية، إنهالوا على أبي ضرباً وشتماً. كنا، أمي وأنا نرتجف خوفاً، تصطك اسناننا، نحضن بعضناً بعضاً، عندما شدني الضابط من شعري وأمر أحد جنوده باغتصابي للضغط على والدي كي يعترف عن مكان المسلحين الذي نجهله تماماً.
أكثر فأكثر، اقتربت الرائحة مني،. استخدم الجندي عضوه ويديه ورائحته، لاتمام فعلته، بسرعة مذهلة تدل على تمرسه وتجاربه الكثيرة في الاغتصاب، ثبّت يدي، وجندي اخر مزق بنطالي وملابسي الداخلية.
صرخ ابي وفقد صوابه، هجم على الجندي وراح يضربه و يبصق في وجهه، فما كان من الأخير سوى ركله وأطلاق جندي آخر النار عليه محولا قامته إلى جثة هامدة. وفيما أخي، صرخ بعنف "يا كلاب ... اقتلوني ولا تفعلوا هذا باختي"، جرّوه إلى الخارج، بينما راحت أمي تتوسلهم باكية أن يعفوا عنه، وان يتركوني وشأني ، ركلها الضابط بحذائه على خاصرتها.
صرخات أخي، وأنفاس أبي الأخيرة، دموع أمي، اختلطت مع الألم الذي أحدثه الجندي في جسدي. اغتصبني كأنه يرمي على جبهة، ويفرغ رصاصاته بعنف ليقتل عدواً بدم بارد، العرق النتن الذي ازداد على جبهته ضاعف من الرائحة. رائحة الخزي التي لن تفارق انفي إلى الأبد.
تخشب جسمي، بت أقرب الى جماد، من دون ملامح أو انفعالات، انفصلت عن أحاسيسي تماماً، لم أشعر ببقية الجنود الذين تناوبوا على اغتصابي، تخدرت، وفقدت ارتباطي بالمكان والزمان. أصبحت أسيرة رائحة، من دون أب. من دون اخ ، ومع أم تائهة افقدتها الصدمة صوابها.
بعد مغادرة الجنود، قام من تبقى من العائلة وبمساعدة الجيران بدفن أبي، من دون أن ندرك أن فقدانه سيكون بداية لفقدان سيتكرر مرة أخرى لا تقل مرارة عن سابقتها. لاحقتنا الحرب بعد انتقالنا إلى قرية صغيرة قريبة، ما دفعنا إلى الهرب مجددا الى مكان ابعد. بقينا هناك أياماً ولم يكن الوضع أفضل حالا من مكاننا السابق، قصف عنيف وقذائف تتساقط كالمطر، المباني تحترق، والناس تخشى التجوال خوفاً من رصاص القناصة. هو الجحيم يتكرر معنا بأشكال مختلفة، قُتلت أختي ذات السبع سنوات، سقطت مضرجة بدمائها بعد أن أصيبت بشظايا برميل سقط قرب سكننا. عادت رائحة الجندي تزكم أنفي من جديد، شعرت أنني اغتصب مرة أخرى. أختي صاحبة الجسد الطري والكلمات العفوية، كانت تنسل كل ليلة إلى سريري، باتت جثة.
أصبح لدينا مدفنان، واحد لأبي في مسقط رأسنا، وآخر لأختي في مكان النزوح. إنها خارطة أوجاعنا تكبر
وتتمدد هنا وهناك.
تغريبتنا تواصلت. هذه المرة خرجنا من سوريا كلها، قصدنا لبنان، وبعد رحلة شاقة وصلنا الى منطقة الشمال. وفي كاراج سيارات ساعدنا أحد الأشخاص في الحصول عليه، اصبح مسكننا الجديد، مكان بارد ورطب وغير قابل للحياة، مع ذلك بقينا فيه عاما كاملا، إلى أن عادت تعويذة الحرب إلى ملاحقتنا. اندلعت اشتباكات طرابلس، ولأن الكاراج قريب من خطوط التماس، طالنا القصف.
لم يكن في ذهننا هذه المرة اي مكان نهرب إليه، وعلى عجل غادرنا إلى بيروت، وتحت ما يسمى بجسر الكولا الشهير جلسنا في العراء. كانت رائحة الجندي الذي اغتصبني تملأ الفضاء حولي، أو على الأقل هكذا كنت أشم. الناس جميعهم ينظرون نحونا يخترقون أجسادنا، شعرت بخوف رهيب، لم أغمض عيني لحظة واحدة، تكورت على نفسي في زاوية، متحسسة كل جزء في جسدي. كنا ضحية اغتصاب العيون. نظرات المارة تدقق في خصوصياتنا وتنتهكنا على مهل ومن دون رادع، نحن العائلة المرمية في الشارع، المشردة، الضعيفة، والخائفة. رحت أفكر هل سندفن أحدنا في هذا المكان ايضاً، لكن كيف سيكون القبر في الشارع..؟!!، مؤكد لن يسمحوا لنا بذلك. وصار عقلي عبارة عن مقبرة .... ورائحة.
الصدفة وحدها كانت سببا في التعرف الى رجل طيب، طلب منا أن ننتقل الى منزله، مقابل التكفل برعاية أمه العجوز، وتنظيف المنزل والاهتمام بالحديقة.
هناك، صارت حياتنا أقل اضطراباً من الناحية المكانية، عشنا في غرفة واسعة قياساً لما حصل لنا. لكن الألم والخوف بقيا جزءا من يومياتنا. الأحداث التي مرّت بنا سيطرت علينا، بتنا أسرى ماضينا القريب، الذي يتحكم بانفعالاتنا ورغباتنا وأحلامنا وأسلوب عيشنا. الماضي الذي حوّل أمي إلى امرأة هشة لا تعي شيئا سوى الصراخ والبكاء، نستيقظ ليلاً على ندبها وكلماتها غير المفهومة، أو على تضرعها الى الله كي يأخذها.
كانت تصلي فقط من أجل ان يستجيب الله لموتها، أرادت أن تتخلص من الماضي بمغادرة الحاضر. اختارت علاجاً خاصاً للأوضاع التي تنهش داخلها، الصلاة والدعاء.
كنت أشعر براحة عميقة حين استمع إلى ابتهالاتها وهي متشحة بالبياض تركع على سجادة الصلاة، راحة تعطل حاسة الشم عندي، تمنحني وقتاً قليلاً بأن أحيا من دون رائحة مغتصبي. صلاة أمي كانت السلاح الوحيد ضد رائحة الجندي التي لم تفارقني. ظلت تفوح من كل الأماكن وكل الأشخاص، أحياناً كنت أفرك جسدي كالمجنونة خلال الحمام، علني أزيل الرائحة، يتقشر الجلد وينزّ الدم، ولكن من دون نتيجة.
علاقتي بجسدي تقوم على الكراهية، أمر بسرعة قرب المرآة خشية أن ألمح جزءا ما. أرتدي ثيابا سميكة حتى في الصيف، كي اردع الخارج. اتحاشى نظرات الرجال، بت أراهم جميعهم ببدلات عسكرية.
في إحدى الصباحات، على غير عادتها لم تكن أمي على سجادة الصلاة، أمضت الليلة الماضية وهي تهجس بسيرة أبي، وأخي المعتقل، وأختي التي قتلت جراء قصف نظام البراميل. كانت تردد أسماء الثلاثة، تستعيدهم على مهل، تضع كلمة حبيبي قبل كل اسم، تتخيلهم أمامها تمسد شعورهم، تغني لهم. نامت تلك الليلة، وقربها جثتين، وجسد يتعذب في معتقل.
هززنا جسدها مراراً رافضين تصديق أنها فارقتنا، كان وجهها أبيض، تبتسم ببراءة، وتشع بنور غريب..".
وتختتم حليمة حديثها قائلة:
" بعد موت أمي، افتقدت صلاتها، تلك المساحة التي كانت تخلصني من الرائحة. الآن استسلمت كلياً لهذه الأخيرة، أصبحت أسيرتها لا أشمها فقط، أتذوقها و اتحسسها وأراها..".
مقتطفات من المجموعة القصصية للدكتورة جميلة حسين ( في انتظار ربيع اخر ) عن النزوح السوري الى لبنان